المبحث الثالث
"في تأويلاته لبعض الصفات"
وقع الشاطبي رحمه الله تعالى في تحريفات لبعض الصفات ، وذلك لأنه يستقي معتقده –كما سبق بيانه-من كتب الأشاعرة وأهل الكلام ويحيل عليها في مواضع كثيرة ، وفي هذا المبحث سوف أذكر الصفات التي حرفها عن موضعها وهي كما يلي :
أولاً: صفة العلو:
1-قال في (الاعتصام) 1/305-بعد كلام-
ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب –المنزه عن النقائص – من العين ، واليد ، والرجل ، والوجه ، والمحسوسات ، والجهة ، وغير ذلك من الثابت للمحدثات).
2- وقال في (الاعتصام) 2/707:(لا يشك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة).
3-وقال في (الموافقات) 4/154- تحت مسألة مالا بد من معرفته لمن أراد علم القرآن- : ( ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علوم القرآن منه ، وإلا وقع في الشُبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة – ثم ذكر أمثلةً على ذلك ومنها قوله-:
والثالث: قوله تعالى(يخافون ربهم من فوقهم)(ءأمنتم من في السماء) وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق ، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض ، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة).
والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول : أن مذهب الشاطبي – كما يتبين من مجموع النصوص السابقة- يدل على نفيه للعلو ، ونفي العلو إنما ذهب إليه متأخرو الأشاعرة بعد أن غلب عليهم التجهم والاعتزال، وإلا فالأشعري نفسه كان يثبت صفة العلو ، و الباقلاني شيخ الأشاعرة كان يثبتها أيضاً، وابن كلاب الذي اقتفى الأشعري ومتقدمو الأشاعرة أثره كان يثبتها أيضاً ، بل إن الجهمية الأوائل والمعتزلة الذين امتحنوا الأئمة بخلق القرآن كانوا لا يجرءون على التصريح بهذه العقيدة وإنما يلمحون إليها،كما قال حماد بن زيد و عباد بن العوام ووهب بن جرير وأبو بكر بن عياش وغيرهم رحمهم الله تعالى : (إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شئ .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى -مخاطباً الأشاعرة-
ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ، وأنه ليس فوق السماوات رب ، ولا على العرش إله ، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها ، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم)اهـ.
وقال ابن رشد الفيلسوف في كتابه (مناهج الأدلة)
القول في الجهة : وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله ، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة)اهـ.
الوجه الثاني : أن في الكتاب والسنة من الأدلة على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى ما يفوق الألف دليل ، فآيات الفوقية والاستواء والصعود والعروج إليه وأنه في السماء وأنه العلي والأعلى وغيرها ، وأحاديث المعراج والعرش والنزول والرؤية ورفع اليدين والإشارة بالإصبع وأنه في السماء وغيرها كلها تدل على العلو ، فكل هذه النصوص والأدلة – مع أدلة العقل والفطرة – تفيد العلم القاطع الضروري حتى على أصول المبتدعة الذين يجحدون إفادة خبر الآحاد المحتف بالقرائن للعلم ، وقد قال الشاطبي نفسه -عن اجتماع الأدلة وإفادتها للقطع-
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع ، فإن للاجتماع ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع ) .
وإذا جاز تأويل هذه النصوص على خلاف ظاهرها – كما ذهب إليه الشاطبي – لم يعد هناك ثقة بالأدلة الشرعية ، وهذا ما جعل الباطنية يتأولون نصوص الأحكام كالصلوات والزكاة والصيام والحج وغيرها ويحتجون على هؤلاء بتأويلاتهم لنصوص الصفات ، وهو ما جعل الفلاسفة يتأولون نصوص المعاد والجنة والنار ويحتجون على هؤلاء بتأويلاتهم لنصوص الصفات ، كما قال ابن رشد الحفيد – وهو من كبار الفلاسفة الباطنية-حين ذكر نصوص إثبات العلو في كتابه (مناهج الأدلة)
إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً ، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهاً ، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة…وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع في ذلك ).
وقد ألف ابن سينا (الرسالة الأضحوية) في إنكار المعاد وتأويل النصوص الواردة في ذلك، واحتج على صحة ما ذهب إليه بما ذهب إليه هؤلاء في نفيهم للصفات وتأويلاتهم لنصوصها، فقال
فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقرباً ما لا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب؟!-يعني أمور المعاد-) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
إن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح فيما دل عليه القرآن من خلق السماوات والأرض ، ومن نعيم الجنة والنار ، ولا ريب أن دلالة القرآن على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر ومسألة منكر ونكير ، وأعظم دلالة على أن محمداً خاتم الأنبياء وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة ، وأعظم دلالة من تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى
وكذلك سطا على تأويل المعاد قوم وقالوا: فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات ، بل نحن أعذر ، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير ، فإذا ساغ لكم تأويلها ، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟ .
وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر والنهي وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها وتنوعها ، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية)اهـ.
لذا اشتد إنكار السلف لما ظهرت مقولة إنكار العلو ، فقد روى الحاكم في (معرفة علوم الحديث)قال : سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول
من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر به ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وأُلقي على بعض المزابل حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن جيفته ، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال - صلى الله عليه وسلم - )اهـ.
الوجه الثالث : أن قوله (فلا يكون فيه على إثبات جهة البتة) وقوله (ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة) وقوله (والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات ) يفيد إنكار العلو، وقد سبق الإجابة على ذلك في الوجوه السابقة ، والمقصود هنا الكلام على قوله (جهة) ، فإن هذا اللفظ مجمل لا يثبت ولا ينفى ، فإن ما يوصف به الله سبحانه توقيفي طريقه الكتاب والسنة ، فما أثبتته النصوص أثبتناه ، وما نفته نفيناه ، وما لم يرد نفيه ولا إثباته لم نثبته ولم ننفه ، بل نستفصل عن المراد به ، فإن كان حقاً قبلناه ، وإن كان باطلاً رددناه ، مع توقفنا في نفس اللفظ فلا يثبت ولا ينفى ، ومن هذه الألفاظ لفظ (الجهة) فإنه لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته ، لذلك لا يطلق نفيه ولا إثباته ولكن يستفصل عن مراد قائله ، فإن أراد به أن الله سبحانه في جهة مخلوقة تحويه فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل من أن تحويه جهة مخلوقة فينفى هذا المعنى عنه ، وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فهذا الأمر نثبته لله سبحانه وقد دلت النصوص عليه ، وكل من نفى الجهة عن الله سبحانه فإنما يريد بذلك نفي العلو والفوقية وقد سبق الرد على ذلك .
الوجه الرابع: أن قوله (إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض) منقوض بأن المشركين كانوا حال شركهم يقرون بأن الله تعالى في السماء وهو إلهٌ لهم ، فقد روي من طريق شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين (أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبيه حصين : كم تعبد؟ قال: سبعة ، ستاً في الأرض وواحداً في السماء ، قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء ) ، فهذا قبل أن يسلم كان مقراً بأن الله تعالى في السماء ، ولم ينازع المشركون في ذلك كالجهمية ، قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى
فحصين الخزاعي كان يومئذٍ في كفره أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام ، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام التي في الأرض المخلوقة ، وقد اتفقت الكلمة بين المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه )اهـ.
وقد ورد في أشعار الجاهليين الإقرار بأن الله تعالى في السماء، كقول عنترة بن شداد العبسي :
يا عبلُ أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
وقال أوس بن حارثة بن ثعلبة-وهو جاهلي-:
فإن تكن الأيام أبلين أعظمي وشيبن رأسي والمشيب مع العمر
فإن لنا رباً علا فوق عرشه عليماً بما نأتي من الخير والشر
و كقول أمية بن أبي الصلت :
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
وقوله أيضاً :
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فردٌ موحد
فالقرآن لما نزل بإثبات الفوقية لله سبحانه كان مقرّراً أصلاً لما عليه العقول والفِطر ولما عليه اعتقاد المشركين أيضاً، فإنهم لم يكونوا ينازعون في ذلك حتى يكون إثبات العلو قد جاء لينفي ما عليه اعتقادهم من أن الآلهة في الأرض .
الوجه الخامس: أن قوله (فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة) لو قلنا بتسليم ذلك – جدلاً- فإنما يكون هذا لو أن العلو لم يثبت إلا بالأدلة السمعية فقط ، كيف وقد دل العقل ودلت الفطرة الصحيحة عليه؟ كما قال عثمان الدارمي رحمه الله تعالى
حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك – أي بالعلو – إذا حزب الصبي شئ يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحدٍ بالله وبمكانه أعلم من الجهمية) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
وأما كونه عالياُ على مخلوقاته بائناً منهم فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم )اهـ.
كما في الحكاية المشهورة أيضاً عن أبي جعفر الهمداني وأبي المعالي الجويني حين قال أبو المعالي على المنبر : كان الله ولا عرش –يريد به نفي العلو والاستواء- ، فقال الهمداني: يا أستاذ دعنا من ذكر العرش – يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع- أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارفٌ قط (يا الله) إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا؟ قالوا : فلطم الجويني على رأسه وقال : حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ، ونزل.
ثانياً: الاستواء :
1-قال في (الاعتصام) 2/787:(بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقومٍ حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى(على العرش استوى) : قاعد ، قاعد ، وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ).
2- وسبق ذكر تفويضه للاستواء في موضعين عند الكلام على عقيدة التفويض .
والكلام على هذا من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : أن معتقد أهل السنة في الاستواء سبق ذكره عند ذكر كلام ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك فيه، وهو أن معنى الاستواء معلوم لنا ولكن الكيفية مجهولة ، وقد كان نفي الاستواء علامة من علامات الجهمية يُستدل بها عليهم ، كما روى عبدالله بن أحمد عن يزيد ابن هارون أنه سئل : من الجهمية؟ قال : من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف ما يقر ذلك في قلوب العامة فهو جهمي .
الوجه الثاني: أن قوله (الظاهرية ) إنما يعني بهم الحنابلة لأنهم يأخذون بظاهر نصوص الصفات، وقد أورد الشاطبي قصتهم هذه نقلاً عن أبي بكر بن العربي –وهو أشعري جلد عفا الله عنه- فقال
حكى ابن العربي في (العواصم) قال: أخبرني جماعة من أهل السنة – ويعني بهم الأشاعرة – بمدينة السلام أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ (الرحمن على العرش استوى) قال لي أخصهم : من أنت –يعني الحنابلة – يقومون في أثناء المجلس ويقولون : قاعد ، قاعد ، بأرفع صوتٍ وأبعده مدى ، وثار بهم أهل السنة – يعني الأشاعرة – من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان ..الخ)اهـ ، ويطالب هنا أولاً بتصحيح هذه القصة فإنه نقله عن أشاعرة مجهولين ، وابن العربي له نقولات من هذا الجنس تحتاج إلى تصحيح، والفتنة قد حصلت فعلاً في بغداد بين القشيري وأتباعه من الأشعرية وبين أتباع أبي يعلى من الحنابلة ، ولكن الحق كان مع الحنابلة في ذلك في الجملة ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
وأكثر الحق فيها – أي في هذه الفتنة – كان مع الفرائية-يعني أتباع أبي يعلى بن الفراء- مع نوع من الباطل ، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل )اهـ.
الوجه الثالث : في الكلام على وصف الله سبحانه بالقعود والجلوس ، فهل يوصف بهما؟.
فقد ورد من حديث عبدالله بن خليفة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال (إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد ) وروي مرفوعاً بألفاظٍ أخرى.
وقال عبدالله بن أحمد : (سئل أبي عما روي في الكرسي وجلوس الرب عليه جل ثناؤه ، رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث) وروى عبد الله أيضاً قال: حدثني أبي ثنا وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالله بن خليفة عن عمر (إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي) فاقشعر رجل سماه –أي عند وكيع- فغضب وكيع وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها اهـ.
و قد روي عن عبدالله بن مسعود والحسن وعكرمة تفسير الاستواء بالجلوس-وفيها ضعف- ولكن ثبت عن بعض السلف تفسيره بذلك ، وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن ، فما جاء في الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد)اهـ.
فالحاصل أن صفة القعود والجلوس كان السلف يذكرونها ولا ينكرونها لأن هذا سبيل الصفات كلها فإنها تثبت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى ، والله تعالى أعلم .
ثالثاً : صفة الكلام :
1-قال في (الاعتصام) 1/307:( وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناءً على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأصول).
-وقال في (الاعتصام) 2/843،844:(كلام الباري إنما نفاه من نفاه وقوفاً مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال ، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجاً عن مشابهة المعتاد على وجهٍ صحيحٍ لائقٍ بالرب ، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلاً ، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال ، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجرداً).
3- وقال في (الموافقات) 2/482 –في التمثيل على الخوارق التي لا تسوغ لمخالفتها لأحكام الشريعة إذا عُرِضت عليها-
أو يسمع نداءً يحس فيه بالصوت والحرف وهو يقول أنا ربك).
4- وقال في (الموافقات) 4/274:(إن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجهٍ و لا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام ).
والكلام عل هذا من وجهين :
الوجه الأول : أن القول بأن كلام الله سبحانه معنى نفسي وهو واحد لا تعدد فيه وليس بحرفٍ ولا صوت قول محدث مبتدع في الإسلام لم يعرف إلا في القرن الثالث وأول من قاله ابن كُلاّب وتبعه على ذلك الأشعري و الأشاعرة وهو مما اختص به الأشاعرة و الكلاّبية دون بقية المبتدعة.
ومن قولهم في ذلك : إن كلام الله معنى واحد هو الأمر بكل مأمور ، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه ، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وأن معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد ، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين إلى غير هذا من العجائب.
وجميع العقلاء يقولون بأن فساد هذا الكلام معلوم بالضرورة ، لذلك فالأشاعرة يقولون بأن الألفاظ والحروف التي بين أيدينا-في المصحف- مخلوقة –وهو نفس كلام المعتزلة- وقد اعترف علماؤهم بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي ، كما قال الرازي في (المحصل)
فالحاصل أن الذي ذهبوا إليه –يعني المعتزلة – فنحن لا ننازعهم فيه) وقال
واعلم أننا لا ننازعهم في المعنى)، ولهذا قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى
ومدار القوم –يعني الأشاعرة - على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة ، ولكنهم أحبوا أن لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان ، وجحد الحقائق ، ومخالفة الإجماع ، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم ، والقول بشئ لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر ، ومن العجب أنهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى-مخاطباً الأشاعرة-
وكذلك قولكم في القرآن ، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم من الذين قالوا القرآن مخلوق حتى كفروهم ، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة ، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة ، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك .
وعند التحقيق : فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه ، ومخالفوهم من وجه ، وما اختلفتم فيه أنتم وهم فأنتم أقرب إلى السنة من وجه ، وهم أقرب إلى السنة من وجه ، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه ، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه .
ذلك أن المعتزلة قالوا : إن كلام الله مخلوق منفصل عنه ، والمتكلم من فعل الكلام ، وقالوا : إن الكلام هو الحروف والأصوات ، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله ، وقالوا : الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع الكلام لا صفاته ، والقرآن غير التوراة ، والتوراة غير الإنجيل ، وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء .
وقلتم أنتم : إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر ، وهذه صفات الكلام لا أنواعه ، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً ، والحروف المؤلفة ليست من الكلام ، ولا هي كلام ، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله ، كما قاله ابن كُلاّب ، أو عبارة عنه كما قاله الأشعري .
(1/53)
________________________________________
ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام…لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله – كما يقوله سائر المسلمين- وأنتم جعلتموه كلاماً مجازاً …إلى أن قال:فالمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون لأن حروف القرآن ليس هو عندكم كلام الله ، بل ذلك مخلوق إما في الهواء وإما في نفس جبريل وإما في غير ذلك ، فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق ، لكن قالوا هم : ذلك كلام الله ، وقلتم أنتم : ليس كلام الله ..فصارت المعتزلة خير منكم في هذا الموضع،إلى أن قال : ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحداً مفرداً هو الأمر بكل ما أمر الله به ، والخبر عن كل ما أخبر الله به، وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه ، وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح العقول).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى
فتأمل الأخوّة التي بين هؤلاء – يعني الأشاعرة- وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم ، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل ، فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه وهو كلام الله وإنه مخلوق)اهـ.
الوجه الثاني :أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء ، وكيف شاء ، وأن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته ، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه يتكلم بصوت ، وأن القرآن كلام الله تعالى ألفاظه ومعانيه .
وقد ثبت أن الله سبحانه يتكلم بصوت ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول الله تعالى : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ، فينادي بصوت :إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ) وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان) وفي رواية لعبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - (إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان)، وثبت عن الصحابة ومن بعدهم إثبات الصوت لله سبحانه.
قال عبدالله بن أحمد
سألت أبي رحمه الله عن قومٍ يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ، قال أبي : بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت ، وقال أبي رحمه الله :حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان) قال أبي : وهذا الجهمية تنكره).
وقال البخاري رحمه الله تعالى
وأن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل ، وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته)اهـ.
والله سبحانه تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه ، وقد ورد إثبات الحروف للقرآن مرفوعاً، فقد روى الترمذي وصححه من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول (الم) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف، وميم حرف) ، قال أبو نصر السجزي رخمه الله تعالى
فقول خصومنا إن أحداً لم يقل إن القرآن كلام الله حرف وصوت كذب وزور ، بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك)اهـ.
وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى
وأما إثبات حروف القرآن فإن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هو سور وآيات ، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ، فمن أقر بهذا وعلمه فقد أقر بالحروف ، فلا وجه لإنكاره ولمجمجته ، ومن أنكر هذا ففي القرآن أكثر من مائة آية ترد عليه ، فإجماع المسلمين يكذبه وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول أصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم يكفره –إلى أن قال-مع أن لفظ الحروف قد نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخباره ، وجاء عن أصحابه كثيراً وعن من بعدهم ، وأجمع الناس على عد حروف القرآن وآيه وكلماته ، وأجمعوا على أن من جحد حرفاً متفقاً عليه فهو كافر ، فما الجحد له بعد ذلك إلا العناد) ، وقال أيضاً رحمه الله تعالى-عن الحروف-
ولم تزل هذه الأخبار، وهذه اللفظة-يعني الحروف- متداولة منقولة بين الناس ، لا ينكرها منكر ، ولا يختلف فيها أحد، إلى أن جاء الأشعري فأنكرها ، وخالف الخلق كلهم مسلمهم وكافرهم ، ولا تأثير لقوله عند أهل الحق، ولا تترك الحقائق وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة لقول الأشعري إلا من سلبه الله التوفيق ، وأعمى بصيرته ، وأضله عن سواء السبيل –ثم تكلم رحمه الله على إثبات الصوت والرد على الأشاعرة في ذلك-)اهـ ، والله تعالى أعلم.
رابعاً: الرؤية:
قال في (الاعتصام) 2/843:( رؤية الله في الآخرة جائزة ، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا ، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجهٍ صحيحةٍ ليس فيها اتصال أشعةٍ ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك ، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة ، وهو إلى القصور في النظر أميل ، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق).
قلت:وهذا مبني على مذهب متأخري الأشاعرة الذين جمعوا بين نفي العلو وإثبات الرؤية ، فوافقوا أهل السنة في إثبات الرؤية ، ووافقوا الجهمية في نفي العلو ، فتناقضوا في إثبات الرؤية بناءً على ذلك من غير مقابلة ولا مواجهة ولا اتصال أشعة !!كما يقولون، وهو أمر انفردوا به بين المسلمين سنيهم وبدعيهم كما اعترف بذلك الرازي.
ولقولهم هذا ألزمهم المعتزلة بأن ينفوا الرؤية لنفيهم العلو والمواجهة والمقابلة، وهذا الإلزام لا محيد عنه فإن العقل لا يتصور رؤية كهذه التي يثبتها الأشاعرة ، فحقيقة قولهم نفي الرؤية ، ولهذا فسرها الشهرستاني بالعلم ، وفسرها الرازي بالكشف التام ، واعترف حذاقهم بأنه لا خلاف بينهم وبين المعتزلة في هذا ، وإنما الخلاف لفظي ، كما قال أبو نصر السجزي رحمه الله تعالى
فهو إذا قال إنه يرى بالأبصار لم يجز في العقل أن تكون الرؤية عن غير مقابلة ، وإن قال إن الرؤية لا تخص البصر عاد إلى قول المعتزلة، وصارت الرؤية في معنى العلم الضروري ، وقد حكي عن بعض متأخريهم أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية هي العلم لا غير)اهـ .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
ولهذا صار الحذاق من متأخري الأشاعرة على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة ، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة ، وقالوا : النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي) وقال
والأشاعرة فسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة ، وقالوا : ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى ، وإنما خلافهم مع المجسمة)اهـ.
ويكفي في إبطال هذا المذهب مخالفته للمعقول –الذي يدعون اتباعه- ومخالفته للمنقول، أما مخالفته للمعقول فقد اعترف حذاق الأشاعرة كما سبق أن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي وأنهم متفقون على إنكار الرؤية –لأن إثبات الرؤية على قولهم مستحيل-، وأما المنقول فما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث الرؤية الجامعة بين إثباتها وإثبات العلو ، فمنها الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (أن ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنكم ترونه كذلك) وفي الصحيحين أيضاً عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال
كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة ، فقال : إنكم سترون ربكم عياناً ، كما ترون هذا ، لا تُضامُّون في رؤيته) وغيرها من الأحاديث .
وهذه الأحاديث جمعت بين إثبات الرؤية وإثبات العلو ، حيث شبّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - رؤية الله سبحانه وتعالى برؤية القمر ورؤية الشمس – وقد جمعت رؤية هذين العلو والظهور- وهو تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ، ورؤية هذين إنما تحدث بمعاينة ومواجهة ، أما رؤية ما لا نعاين ولا نواجه فغير متصورة في العقل مطلقاً.
خامساً:صفات (الاستهزاء) و (المكر) و (الكيد) ونحوها:
قال في (الموافقات) 2/257:(تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداءً مجازٌ معروف مثله في كلام العرب ، وفي الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى (الله يستهزئ بهم) (ومكروا ومكر الله) (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) إلى أشباه ذلك).
قلت:
وحمل هذه الصفات على المجاز تأويل لها ، والصحيح في هذه الصفات إثباتها على الوجه اللائق بالله سبحانه ، وكون الاستهزاء والمكر والكيد ونحوها صفات مذمومة من البشر لا يقتضي هذا نفيها عن الله سبحانه لأمرين :
الأمر الأول: أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له في ذاته و لا في صفاته ولا في أفعاله ، فلا يقاس بخلقه –كقياسات المعتزلة مشبهة الأفعال- فيجعل كل ما حسن من البشر حسن منه ، وما قبح منهم قبح منه ، فإن هذا لا يكون إلا للنظيرين ، والله سبحانه لا نظير له ، فقد يحسن منه ما لا يجوز للبشر الاتصاف به كالعظمة والكبرياء ، وقد يحسن من خلقه ما ينزه عنه سبحانه كالعبودية .
الأمر الثاني :إن كون الاتصاف بهذه الصفات مذموم ليس على الإطلاق ، لأن هذه الصفات ونحوها لها حالتان :
الحالة الأولى :يكون الاتصاف بها مذموماً وهو إذا ما تضمن ذلك للظلم والكذب والغش ونحوها .
الحالة الثانية: يكون الاتصاف بها محموداً وهو ما كان بحقٍ وعدلٍ ومجازاةٍ ، فمن مكر بظلم فيحسن أن يمكر به بحقٍ و بعدلٍ .
فمثل هذه الصفات ليست كمالاً على الإطلاق ، وليست نقصاً على الإطلاق ، بل فيها تفصيل ، ومثلها يرد إطلاقها على الله سبحانه في حالة كونها كمالاً وهي التي تكون على سبيل المقابلة ، لذلك فليس من أسمائه سبحانه (المستهزئ) و لا (الماكر) و لا (الكائد) ونحوها ، لأنها ليست محمودة على الإطلاق ، والله سبحانه لم يصف نفسه بها إلا على وجه المقابلة والجزاء لمن فعل ذلك بغير وجه حق .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى -عن صفات المكر والخداع والكيد والاستهزاء ونحوها-: (لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيراً ، فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازاً في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيبٍ وذم .
والصواب : أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب ، فما يذم منها إنما لكونه متضمناً للكذب والظلم أو لهما جميعاً ، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله…فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازاً ، والحق خلاف هذا الظن ، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم ، فما كان منها متضمناً للكذب والظلم فهو مذموم ، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم حسُن من المجازي له أن يخدعه بحقٍ وعدلٍ –إلى أن قال-إذا عرف ذلك فنقول : إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً ، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى –إلى أن قال- أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق ، وقد عُلِم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق ، فكيف من الخالق سبحانه ؟ ، وهذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله ، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه ، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلاًوأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحاً ، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحاً البتة ، فلا يمتنع وصفه به ابتداءً لا على سبيل المقابلة على هذا التقرير ، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه)اهـ.
سادساً: الحب والبغض :
1-قال في (الموافقات) 2/194:(والحب والبغض من الله سبحانه إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام فيرجعان إلى صفات الأفعال ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام و الانتقام فيرجعان إلى صفات الذات ، لأن نفس الحب والبغض المفهومين من كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة أخرى ، وعلى كلا الوجهين فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام والانتقام وهما عين الثواب والعقاب).
2-وقال في (الموافقات) 2/195:(إنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات إما أن يستلزم الثواب والعقاب أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب، وإن لم يستلزم فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشئ ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد ، وهو الجزاء لا زائد يرجع إلى العبد إلا ذلك).
3-وقال في (الموافقات) 2/202:( صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب ).
قلت:والكلام على هذا من وجهين:
الوجه الأول:أن هذا الكلام فيه تأويل لصفتي الحب والبغض ، وهو نفس تأويل الأشاعرة فإنهم يؤولون الحب والبغض إما بالمخلوقات فيجعلون الحب هو نفس الإنعام أو الثواب ، والبغض هو نفس الانتقام أو العقاب ، أو بصفةٍ لازمةٍ للحب والبغض وهذه الصفة يقرون بها ، فيجعلون الحب هو إرادة الإنعام، والبغض هو إرادة الانتقام ، وهم يثبتون الإرادة.
وهم بذلك اقتفوا أثر الجعد بن درهم –شيخ الجهمية – فإنه أول من أنكر صفة المحبة، وتبعه الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم ، مع أن الأشاعرة يلزمهم إثبات المحبة والبغض لأنهم يثبتون الإرادة ، فإن كان إثباتهم للإرادة كما يليق بالله عز و جل فليثبتوا الحب و البغض كما يليق بالله أيضاً، فإن قالوا : إن الحب رقة وضعف في القلب ، والبغض لا يكون إلا عن منافرة ، والله سبحانه ينزه عن هذا ، قيل لهم : والإرادة أيضاً هي ميل النفس لجلب منفعة أو دفع مضرة ، والله سبحانه ينزه عن هذا فيلزمكم نفي الإرادة كما نفيتم الحب والبغض ، فإن قالوا : هذه الإرادة التي تذكرون هي إرادة المخلوقين ، ونحن نثبت الإرادة لله على ما يليق به فلا تشبه غيرها من الإرادات ، قيل لهم : وهذا الحب الذي تقولون إنه رقة ، والبغض الذي تقولون إنه لا يكون إلا عن منافرة هو أيضاً حب المخلوقين وبغضهم ، فأثبتوا الحب والبغض على ما يليق بالله عز و جل ، فيلزمهم فيما أثبتوه نظير ما نفوه .
فإذا فهم ما سبق ، تبين الجواب على الشاطبي في قوله
إن نفس الحب والبغض المفهومين من كلام العرب محالان على الله تعالى ) ، والكلام عليه من وجهين :
الأول :أن يقال له : ويلزمك أيضاً أن تقول ونفس الحياة المفهومة من كلام العرب محالة على الله تعالى ، ونفس العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة وجميع الصفات المفهومة من كلام العرب محالة على الله تعالى ، فإن قال : ولكننا نثبت هذه الصفات كما يليق بالله عز وجل ولا نثبتها كثبوتها للمحدثات ، قيل له: ويلزمك هذا في الحب والبغض ، فأثبتها كما يليق بالله عز وجل ، فإن قال : ولكن الحب والبغض المفهومين من كلام العرب محالان على الله ، فإن الحب رقة ، والبغض عن منافرة ، قيل له : والحياة المفهومة من كلام العرب هو بقاء الروح في الجسد كما في الحيوان أو النماء كما في النبات ، والسمع المفهوم من كلام العرب هو التقاط الأصوات بآلةٍ كالصماخ ونحوه مع وجود الأسباب وزوال الموانع ، وهكذا، فيلزمك نفي الصفات كلها إن جعلت المفهوم من كلام العرب ما نراه في الشاهد، فإن قال : ولكن هذه صفات المحدثات ، ونحن نثبت الصفة لله كما يليق به على وجهٍ لا يشبه صفاتها ، قيل له: والحب والبغض الذي أحلته على الله هو الثابت للمحدثات ، فأثبت لله سبحانه الحب والبغض اللائق به كما أثبت غيره من الصفات .
الثاني : أن قوله (المفهومين من كلام العرب) مجمل ، فإن كان يريد أن المفهوم من كلام العرب هو ما نراه في الشاهد من صفات المخلوقات فهذا ينزه الله تعالى عنه ، ولكن ليس هذا هو المفهوم من كلام العرب ، فإن الله سبحانه خاطبنا بلغة العرب ووصف نفسه بالحياة وبالعلم وبالقدرة وبغيرها ، فأثبتناها على ما نفهمه من لغة العرب ولا يقتضي هذا تشبيهاً لأننا نثبتها كما يليق بالله سبحانه ، وإن كان يريد أن معنى المحبة والبغض ينزه الله عنه مطلقاً فهذا باطل ، فقد ثبت ذكر المحبة والبغض في الكتاب والسنة فثبتها على ما يليق بالله عز وجل .
الوجه الثاني:أن قول الشاطبي (لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره، أو يتكمل بشئ ،بل هو الغني على الإطلاق).
فيقال له : ما المقصود بهذا؟ .
إن كان يريد بقوله (تعالى أن يفتقر لغيره ، أو يتكمل بشئ) نفي المحبة والبغض فيلزمه أن يقول هذا الكلام على باقي الصفات ، فإذا كان اتصافه بالمحبة والبغض افتقاراً لغيره وتكملاً بغيره ، فقل مثل هذا في ما أثبته من صفات ، فإن قال :إنها من صفاته وهو بصفاته سبحانه كامل لا نقص فيه ولا افتقار ، فقل مثل هذا في المحبة والبغض .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
قول القائل يتكمل بغيره ، أيريد به شئ منفصل عنه ؟ أم يريد بصفة من لوازم ذاته؟ أما الأول فممتنع ، وأما الثاني فهو حق ، ولوازم ذاته لا يمكن وجود ذاته بدونها كما لا يمكن وجودها بدونه وهذا كمال بنفسه لا بشئ مباين لنفسه).
والسبيل في هاتين الصفتين هو سبيل أهل السنة والجماعة في باقي الصفات وهو إثباتها على ما يليق بالله عز وجل ، والله تعالى أعلم.
يتبع.................