الفصل الثاني
"مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات"
تمهيد:
تعددت مخالفات الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا التوحيد تبعاً لمخالفات الأشاعرة ، فإنه إنما ينقل الاعتقادات من كتبهم الكلامية، فكان إذا أراد عرض معتقد الصحابة والسلف في الصفات عرضها بما يتوافق مع عقيدة المفوّضة – وهو نفس فهم الأشاعرة لمعتقد السلف - ، ويبني أحكامه في الصفات تبعاً لألفاظٍ مجملة ، وإذا تكلم عن بعض الصفات أوّلها كتأويلات الأشاعرة والمبتدعة ، وإذا تعرض للخلاف بين المذهبين – يعني مذهب السلف ومذهب الخلف في الصفات – هوّن الخلاف بينهم وجعله شبيهاً بالخلافات الواقعة في الفروع ، ولكثرة مخالفاته هذه فقد رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث وهي كما يلي:
المبحث الأول
"في عقيدة التفويض"
يظهر جلياً واضحاً من كلام الشاطبي رحمه الله تعالى عند تعرضه لمذهب السلف في نصوص الصفات ومدحه له وحثه على اتباعه أنه إنما يقصد به مذهب التفويض – تفويض المعنى والكيفية – أو مذهب (التجهيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضوان الله عليهم) وهو أن نصوص الصفات لا تعقل معانيها ولا يفهم منها شئ بل هي بمنزلة الكلام الأعجمي ، لذلك جعل نصوص الصفات من قسم المتشابه الحقيقي الذي لا سبيل لنا إلى معرفة معناه والمراد منه .
وإليك نصوصه في هذا :
1-قال في (الاعتصام) 1/304،305:(وقد علم العلماء أن كل دليلٍ فيه اشتباه وإشكال فليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه ، ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه فليس بدليل لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه و دالاً على غيره و إلا احتيج إلى دليل عليه)اهـ.
2-وقال في (الاعتصام) 2/586:(جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما )اهـ.
3-وقال في (الاعتصام)2/736:(ومعنى المتشابه ما أشكل معناه ولم يبين مغزاه ، كان من المتشابه الحقيقي كالمجمل وما يظهر من التشبيه)اهـ.
4-وقال في (الاعتصام) 2/840-بعد كلامٍ طويلٍ-
وهو ظاهر قوله تعالى
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو للزم العلم به لجعل طريقاً إلى معرفته ، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق –ثم مثّل على ذلك بالصفات-)اهـ.
5-وقال في (الاعتصام) 2/850:(فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء من السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه –إلى أن قال – وقال الأوزاعي: كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها، ومثله عن مالك و الأوزاعي وسفيان بن سعيد –هو الثوري- وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت ، نحو حديث النزول ، وخلق آدم على صورته، وشبههما ، وحديث مالك في السؤال عن الاستواء المشهور ، وجميع ما قالوه مستمد من معنى قوله تعالى
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..الآية ، ثم قال
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فإنها صريحة في المعنى الذي قررناه ، فإن كل ما لم يجر على المعنى المعتاد في الفهم متشابه ، فالوقوف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - )اهـ.
6- وقال في (الموافقات) 3/323-326 –تحت مسألة التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما يقع في الفروع الجزئية-
فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع علم القرآن)اهـ.
7-وقال في (الموافقات) 3/328-في مسألة تسليط التأويل على المتشابه-
فإن كان –أي المتشابه – من الإضافيفلابد منه –إلى أن قال –وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله… وأيضاً فإن السلف الصالح والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين تأويلٍ من غير دليل وهم الأسوة و القدوة)اهـ
8-وقال في (الموافقات) 4/137:(إن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه –إلى أن قال –ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله تعالى
الرحمن على العرش استوى) ، وفي الحديث (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) وأشباه ذلك هذا معنى لا يتعلق به تكليف)اهـ.
9-وقال في (الموافقات) 3/318،319-في التشابه-
وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف فلم يتكلموا فيه بغير التسليم والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك ، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها وهو ظاهر القرآن لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ، ولا تكليف يتعلق بمعناها)اهـ.
10-وقال في (الموافقات) 5/143:(والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه…)اهـ.
قلت: والكلام على هذه النصوص من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول: أن ما ذكره من كون نصوص الصفات من المتشابه الحقيقي الذي لايفهم منه شئ ولا يعقل له معنى وأن الصحابة والسلف كانوا لا يخوضون في معانيها وهم جاهلون بهذه المعاني هي عقيدة المفوّضة وهي عقيدة الأشاعرة إذا أحالوا لمذهب السلف ، وهو المراد بقولهم (مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم) فمقصودهم بمذهب السلف هنا هو نفس ما ذهب إليه الشاطبي وهو الإيمان بهذه النصوص مع الجهل بمعانيها وجعل نصوص الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يعقل ، ونصوص الأشاعرة في هذا كثيرة ، فمن ذلك ما ذكره الرازي في كتابه (أساس التقديس)حيث عقد فصولاً في آخر كتابه هذا مقرراً فيه لعقيدة السلف فقال
الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف ، حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها أن مراد الله منها شئ غير ظواهرها ، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها) ، وقال الغزالي
وقد يطلق –أي المتشابه- على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله).الوجه الثاني: أن هذا المذهب من أفسد المذاهب وأبعدها عن مذهب السلف ، إذ فيه تجهيل لخير الأمة وأنهم كانوا يقرأون ما لا يفهمون معناه ، بل إن فيه رمي للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجهل في أعظم أصول الدين وهو معرفة الله سبحانه وما يستحقه من أوصاف الكمال ، فإن حقيقة هذا المذهب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ آيات الصفات ولا يفهم معناها ، بل ويتكلم بأحاديث الصفات كالنزول والفرح والغضب والقدم والساق والوجه واليدين وبمقتضى كلامهم فهو لا يفهم معنى ما يتكلم به!! بل إن فيه قدح في الله سبحانه وتعالى ، فإنه أنزل علينا كتابه وأمرنا بتدبره فقال تعالى
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا) وقال تعالى
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها) وقال تعالى
كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) وقال تعالى
أفلم يدّبروا القول) وغيرها ، فيلزم من كلامهم أنه أمرنا بتدبر القرآن ثم جعل أعظم أصول الدين وهو معرفة الله سبحانه بصفات الكمال طلاسم لا نعقل منها شيئاً بمنزلة أصوات البهائم ورطانة الأعاجم ونحوها وكفى بهذا دليلاً على إبطال هذا المذهب ، وقد كان السلف يقرأون القرآن ويعقلون هذه المعاني كما قال أبو عبدالرحمن السلمي قال: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً) وقال مجاهد
عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته ، أقف عند كل آية وأسأله عنها) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى–في أصناف المنحرفين عن مذهب السلف -:
(وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات و لا جبريل يعرف معاني الآيات ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك ، وكذلك قولهم في أحاديث الصفات إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم بها ابتداءً فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه )اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
(والصنف الثالث : أصحاب التجهيل : الذين قالوا نصوص الصفات ألفاظ لا نعقل معانيها ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها ، ولكن نقرأها ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله ، وهي عندنا بمنزلة (كهيعص) و (حم عسق) و (المص) فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيها تمثيلاً و لا تشبيهاً ولم نعرف معناه وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله ، وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ، و لا يفهمون معنى قوله
لما خلقت بيديّ) وقوله
والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وقوله
الرحمن على العرش استوى) وأمثال ذلك من نصوص الصفات ، وبنوا هذا المذهب على أصلين :
أحدهما:أن هذه النصوص من المتشابه.
والثاني:أن للمتشابه تأويلاً لا يعلمه إلا الله .
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأنهم كانوا يقرأون (الرحمن على العرش استوى) و (بل يداه مبسوطتان ) ويروون (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) و لا يعرفون معنى ذلك و لا ما أريد به ، ولازم قولهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه ، ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا : تجرى على ظواهرها وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل ، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله ، فكيف يثبتون لها تأويلاً ويقولون تجرى على ظواهرها ، ويقولون الظاهر منها غير مراد ، والرب منفرد بعلم تأويلها؟ وهل في التناقض أقبح من هذا؟ .
وهؤلاء غلطوا في المتشابه ، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه ، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ، فأخطئوا في المقدمات الثلاث ، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين ، وسدوا على نفوسهم الباب ، وقالوا لا نرضى بالخطأ ولا وصول لنا إلى الصواب ، فهؤلاء تركوا المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين ، وأعرضوا عنه بقلوبهم ، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك ، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها)اهـ.
الوجه الثالث : أن مذهب السلف إنما هو تفويض الكيفية دون المعنى ، بمعنى أنهم يفهمون آيات الصفات وأحاديثها ويدركون معناها ، فيعلمون معنى الاستواء والنزول والفوقية والوجه والعين والقدم ونحوها ، ويفرقون بينها فيعلمون أن معنى الوجه غير معنى العين وأن معنى العين غير معنى النزول وهكذا ، ولكنهم يفوضون كيفية هذه الصفات إلى الله فلا يعلمونها ، وهذا كما ثبت عن الأوزاعي وسفيان ومالك والليث بن سعد وغيرهم من السلف أنهم كانوا في نصوص الصفات : (أمروها كما جاءت بلا كيف) فهنا التفويض في الكيف لا في المعنى ، وكما قال ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك لمن سأل عن الاستواء
الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول) فذكر هنا أن معنى الاستواء غير مجهول بل هو معلوم ، وإنما المجهول هو الكيف .
وقد قرّر علماء السنة هذا الأمر في كل زمانٍ ومكانٍ ، فقد قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى في رده على بشر المريسي
أما قولك إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ ، فإنا لا نقول إنه خطأ بل هو عندنا كفر ، ونحن لتكييفها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفاً منكم ، غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذب بها ولا نبطلها بتأويل الضلال –إلى أن قال- فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم ولا نفسرها كتفسيركم)اهـ.
وقال شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبدالملك الكرجي –رحمه الله تعالى-في كتابه (الفصول في الأصول): (-بعد أن ذكر نصوص الصفات- إلى غيرها من الأحاديث ، هالتنا أو لم تهلنا ، بلغتنا أو لم تبلغنا ، اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولا نتأولها وعلى العقول لا نحملها وبصفات الخلق لا نشبهها ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها ولا نزيد عليها و لا ننقص منها بل نؤمن بها ، ونكل علمها إلى عالمها كما فعل السلف الصالح وهم القدوة في كل علم)اهـ.
وكما قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى
- في الكلام على حديث النزول- فلما صح خبر النزول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرّ به أهل السنة ، وقبلوا الخبر ، وأثبتوا النزول على ماقاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعتقدوا فيه تشبيهاً له بنزول خلقه ، ولم يبحثوا عن كيفيته إذ لاسبيل إليها بحال)اهـ.
وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
- تعليقاً على كلام مالك في الاستواء- وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته ، ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب فنعلم معنى الاستواء ولا نعلم كيفيته ، ونعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته ، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة ولا نعلم كيفية ذلك ، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك)اهـ.
وكما قال الذهبي رحمه الله تعالى
-تعليقاً على كلام مالك رحمه في الاستواء- وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها ، بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً و لا إثباتاً ، بل نسكت ونقف كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه ، ونعلم يقيناً أن الله جل جلاله لا مثيل له في صفاته ، ولا في استوائه، ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً)اهـ.
وكلام الأئمة في هذا الباب كثير وكله متفق على العلم بمعنى الصفة والجهل بكيفيتها وأن هذا هو تفويض السلف ، لا كما يزعم المبتدعة أن السلف كانوا يؤمنون بألفاظٍ لا يعلمون معانيها والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
"اتباعه للألفاظ المجملة"
يذكر الشاطبي رحمه الله تعالى عند كلامه على نصوص الصفات ألفاظاً مجملة ثم يبني عليها أحكاماً تتفق مع بدع الأشعرية ، وأكثر هذه الألفاظ ذكراً عنده لفظ (الظاهر) ولفظ (التشبيه) ، وإليك نصوصه في هذا :
1-قال في (الموافقات) 4/223:(كما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله تعالى
تجري بأعيننا)(مما عملت أيدينا)(وهو السميع البصير)(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا).
2-وقال في (الموافقات) 4/10-تحت قاعدة إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان-
كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كلياً عاماً ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمرٍ خاصٍ يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة)اهـ.
3-وقال في (الموافقات) 5/216- تحت مسألة من الخلاف ما يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك،وذكر من أسبابه-
التاسع:أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجهٍ يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل ، وجميع التأويلات في ذلك سواء ، فلا خلاف في المعنى المراد ، وكثيراً ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه)اهـ.
4- وقال في (الاعتصام) 1/306:(إن المشابه للمخلوق في وجهٍ ما مخلوق مثله)اهـ.
5- وسبق ذكر قوله – في المبحث السابق – (كظهور تشبيه) و(الموهمة للتشبيه) وغيرها.
قلت: والكلام على هذا من وجهين :
الوجه الأول :وهو في الكلام عن لفظ (الظاهر) ، فإنه لفظٌ مجمل إذ قد يراد به المعنى الظاهر المعروف من الصفة –على ما يليق بالله عز وجل - ، وقد يراد به الظاهر المشاهد من صفات المخلوقين ، فهذا اللفظ يحتمل المعنيين ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون المعنى الثاني ظاهراً ولا يرتضون أن يكون النصوص كفراً وباطلاً ، والله سبحانه أعلم وأحكم من أن يجعل كلامه لا يظهر منه إلا ماهو كفرٌ و ضلال ، وأما المعنى الأول فهو الحق ، و الشاطبي إن كان يريد المعنى الأول فهو حق ولا يوهم تشبيهاً لأنه يثبت معناه على ما يليق به سبحانه ، وإن كان يريد الثاني فهو باطل ولا يقتضي إثبات الصفات ذلك ، بل يلزمه أن ينفي جميع الصفات بل والأسماء أيضاً لأن ظواهرها واحدة ،فإن قد كان نفى بعض الصفات لأن ظواهرها موهمة للتشبيه فلينف الباقي لأنها من بابةٍ واحدة ، وإن ادعى أن ما أثبته من صفات على ما يليق بالله ولا تقتضي تشبيهاً فكذلك باقي الصفات، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شئ عليم ، وأنه على كل شئ قدير ، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره ، وأن ظاهر ذلك مراد ، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا ، وكذلك لما اتفقوا أنه حي حقيقة ، عالم حقيقة ، قادر حقيقة ، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير ، كذلك إذا قالوا في قوله
يحبهم ويحبونه)(رضي الله عنهم ورضوا عنه) وقوله(ثم استوى على العرش) إنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق ولا حباً كحبه ولا رضا كرضاه ، فإن كان المستمع يظن أن ظاهر
الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيئاً من ظاهر ذلك مراداً ، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي ، وليس في العقل و لا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفى به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحداً)اهـ.
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى -بعد كلامٍ طويلٍ-
وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معانٍ قبيحةٍ غير لائقة ، والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك ، وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر الكتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو عدم معرفة مدعيها ، ولأجل هذه البلية العظمى والطامة الكبرى زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه –ثم قال – وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه ، ولا بد أن نتساءل هنا فنقول : أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟ والجواب الذي لا جواب غيره : بلى ، وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال : إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة خلقه ؟ والجواب الذي لا جواب غيره : لا ، فبأي وجهٍ يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفةٍ من صفات الله أثنى بها على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال أيضاً
الأمر الثالث : في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات كالاستواء واليد مثلاً : اعلم أولاً أنه غلط خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث ، وقالوا : يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً لأن اعتقاد ظاهره كفر لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر ، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قيل له
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، وأحرى في العقائد و لا سيما ما ظاهره المتبادر منه ما لا يليق ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كتم أن ذلك الظاهر المتبادر منه كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه ، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتابٍ أو سنةٍ ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شئ من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شئ من صفات الحوادث ، فمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة تلك الصفة الموصوف بها الخالق وبين شئ من صفات المحدثين)اهـ.
الوجه الثاني: وهو في الكلام على لفظ (الشبه) ، فنفي المشابهة أيضاً لفظٌ مجمل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً :
أما الحق الذي يحتمله فهو أن يكون بمعنى مشابهة الخلق وهو مرادف للتمثيل ، وهذا هو الذي يعنيه السلف دائماً عند ذكرهم نفي التشبيه نحو قول نعيم بن حماد رحمه الله تعالى : (من شبه الله بخلقه كفر ، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه)(1) .
وأما الباطل الذي قد يراد به فهو نفي المشابهة مطلقاً حتى في المعنى المشترك الكلي للصفات كمعنى الاستواء والنزول واليد والوجه ونحوها ، فإن المعنى الكلي الموجود في الذهن لهذه الصفات تشترك فيها جميع الموجودات ، ولولا هذا المعنى الكلي لما عقلنا معنى الاستواء ، ولا معنى النزول ، ولا معنى اليد و لا معنى الوجه و لا معاني غيرها من الصفات ، إذ خاطبنا الله سبحانه بما نفهمه ونعقله من المعاني ، وهذا المعنى المشترك الكلي إنما يوجد في الذهن ولا يوجد في الخارج إلا مخصصاً مقيداً ، فنزول الله سبحانه يليق بجلاله لا يشبه نزول المخلوق ، ونزول المخلوق يليق به لا يشبه نزول الخالق ، ولكنهما يشتركان في معنىً كلي موجود في الذهن منه نعقل ونعلم معنى النزول ونفهمه ، ولكن هذا الاشتراك في المعنى الكلي لا يقتضي تمثيلاً ولا تكييفاً ، فمن نفى هذا المعنى المشترك الكلي فقد نفى معاني الصفات وهذه عقيدة المفوضة كما سبق بيانه وتفصيل القول فيه في المبحث السابق .
و الشاطبي رحمه الله تعالى من الواضح جداً أنه يريد في نفيه للتشبيه إدخال هذا المعنى الباطل بدليل تفويضه للمعنى ، وقوله ( إن المشابه للمخلوق في وجهٍ ما مخلوق مثله) فإن هؤلاء يجعلون الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الذهن تشابهاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
إن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة ، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا ، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وماءاً وخمراً ونحو ذلك ، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى ، ولكن ليس هو مثله ، ولا حقيقته كحقيقته ، فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ، ولا حقيقته كحقيقته ، والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم تعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد ، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد ، مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد) وقال رحمه الله تعالى
وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب ، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال )اهـ.
يتبع...............