مروره بالديار المصرية
ومما لا شك فيه أن ابن العربي ووالده لم يطيلا اللبث في كرم مضيفهم أمير قبيلة بني كعب بن سُليم، فتوجها قاصدين ديار مصر التي كان طريقهم عليها أيضا عند انتهاء الرحلة. وكان الحكم في مصر عند وصولهما إليها آخر سنة 485 للمستنصر أبي تميم معد حفيد الحاكم، وكان علماء أهل السنة قليلي الظهور، حتى إن ابن العربي كان يذهب إلى القرافة الصغرى- قريبا من قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي - ليلقى فيها شيخه مسند مصر القاضي أبا الحسن علي بن الحسن بن الحسين بن محمد الخلعي الموصلي الأصل المصري المولد الشافعي (405 - 492) ولهذا العالم ترجمة في حرف العين من (وفيات الأعيان) وفي (طبقات الشافعية) لابن السبكي (3: 296 ) وفي (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي (3: 398 ). وممن لقيهم في مصر وأخذ عنهم أبو الحسن بن شرف، ومهدي الوراق، وأبو الحسن بن داود الفارسي.
وصوله إلى بيت المقدس
وواصل ابن العربي رحلته مع أبيه إلى بيت المقدس، وكان فيها الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الفهري (451-520) من كبار علماء المالكية الأندلسيين، وهو كابن العربي خرج من الأندلس إلى المشرق فذهب إلى العراق وجاء منها إلى دمشق وبيت المقدس، فلقيه فيها ابن العربي واستفاد منه كثيرا قبل مجيء الطرطوشي إلى الإسكندرية. ويقول ابن العربي فيما نقله عنه صاحب نفح الطيب (1: 341): تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة ( ) المرفوع: {إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم} ( ) . فقالوا: " منهم ". فقال: " بل منكم (أي من الصحابة) لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون عليه أعوانا ".
وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال في الصحيح: {لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} ( ) ، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح ( ) وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها- من فروع الدين-يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضا انتهاؤه... حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف، وباع نفسه في الدعاء إليه، كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاء إلى الله.. إلخ.
وفي بيت المقدس أيضا لقي ابن الكازروني وقال عنه: إنه كان يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور ( ) فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته إلا الإصغاء إليه.
ونقل صاحب نفح الطيب (1-340) قوله: " شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهارا وذكرت الله سبحانه فيها سرا وجهارا " ( ) .... وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة والذي عندي أنها صخرة في الأصل وقطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها. وكان ما حولها محفوفا بقصور نحتت في ذلك الحجر الصلد، بيوت أبوابها ومجالسها منها مقطوعة فيها ( ) . وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس.... إلخ