وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بِزَوْله ( ) ويغرقنا في هوله. فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر. وانتهينا بعد خطب طويل- إلى بيوت بني كعب بن سُليم- ونحن من السغب، على عطب. ومن العري، في أقبح زي.
وقد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها ( ) ودسَّمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أُزُرا، واشتملناها لُفعا ( ) تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا، فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا وأكرم مثوانا، وكسانا بأمر ( ) حقير ضعيف، وفن من العلم ظريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاة ( ) فعل السامد اللاه. فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته ( ) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار. ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس بطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة. فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا، وعظمتُ في عيونهم بعد أن كنت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام. فاستدناني، فدنوت منه. وسألني: هل لي بما هم فيه بصر ؟ فقلت: "لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر. حرِّك تلك القطعة" ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم تترى، حتى هزمهم الأمير، وانقطع التدبير. فقالوا: ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر، فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال: لعن الله أبا الطيب، أويشكُّ الرب ؟ ! فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب هنا الصاحب. يقول: ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب. فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به، كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرَّك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض. وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سني ؟ ويكشفونني عني. فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي ( ) . وأعلمت الأمير بأن أبي معي، فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه ( ) . فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمعه. وجاء كل خوان، بأفنان الألوان. فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب ( ) مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذانا من العطب. وهذا الذي يرشدكم- إن غفلتم- إلى الطلب. وسرنا، حتى انتهينا إلى ديار مصر. وسترى عند كلامنا على مؤلفات ابن العربي أن منها كتابا كبيرا سماه "ترتيب الرحلة، للترغيب في الملة" ومما يؤسف له أن هذا الكتاب يعتبر الآن مفقودا، ولكن الذي اطلعنا عليه من نماذجه المنقولة عنه في تراجمه وغيرها من كتب العلماء يدل على أنه من الذخائر النفيسة التي تصف الكثير من أحوال المجتمع الإسلامي وعمران أوطانه في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وتنوه بدخائل أعلامه من العلماء والحكام بقدر ما اطلع عليه هذا العالم الرحالة الدقيق النظر الذكي الفطرة الحريص على الإلمام بجميع أبواب المعرفة، ولو وقع لنا كتاب رحلته، لانتفعنا منه كثيرا في تدوين ترجمته، ولا سيما في السنوات التسع (485 - 493) التي قضاها في خارج الأندلس، بين حادثة سقوط دولة آل عباد والوقت الذي شاء الله له أن يعود فيه إلى وطنه.
يتبع..